الخوارزميات التي تصنع الرأي العام: هل يوجّه فيسبوك تفكير المستخدمين؟
| الخوارزميات التي تصنع الرأي العام: هل يوجّه فيسبوك تفكير المستخدمين؟ |
في عالم الإعلام الرقمي، لم تعد الأخبار تصنعها المؤسسات الصحفية فقط، بل الخوارزميات التي تدير ما يراه المستخدم على شاشته. فيسبوك، كأكبر منصة تواصل في التاريخ، أصبح بمثابة "محرر خفي" يختار لكل مستخدم رواية مختلفة عن الواقع، دون أن يدرك أنه يعيش داخل فقاعة رأي رقمية صنعتها له خوارزميات دقيقة تعمل على تعزيز ما يوافق قناعاته فقط.
كيف تعمل خوارزميات فيسبوك؟
تعتمد خوارزميات فيسبوك على مبدأ بسيط لكنه بالغ التأثير: كلما تفاعلت أكثر، كلما رُشح لك محتوى مشابه. هذه الدائرة المغلقة تؤدي إلى ما يُعرف بـ غرف الصدى (Echo Chambers)، حيث يسمع المستخدم فقط الأصوات التي تتفق مع آرائه السياسية أو الدينية أو الاجتماعية.
بهذه الطريقة، يتحول فيسبوك إلى بيئة تُغذّي الانقسام الاجتماعي بدل أن تُقلله، لأن كل طرف يرى "العالم" من زاويته الخاصة فقط، وكأن الحقيقة أصبحت وجهة نظر قابلة للبرمجة.
منصات إعلامية بلا صحفيين
أخطر ما في الخوارزميات هو أنها تعمل وفق منطق “الربح قبل الحقيقة”. فهي تفضّل المحتوى المثير للجدل والعاطفي لأنه يحقق تفاعلًا أعلى، بغض النظر عن دقته. وهكذا، أصبحت المنشورات المزيفة تنتشر أسرع من الأخبار الموثوقة بنسبة 70% وفق دراسات معهد MIT.
ومن هنا تظهر إشكالية التحكم في الرأي العام، إذ يمكن لأي جهة تمتلك التمويل أن توجّه المستخدمين عبر إعلانات أو منشورات مصممة لتؤثر على سلوكهم الانتخابي أو الاستهلاكي.
التحليل النفسي للسلوك الرقمي
تقوم خوارزميات فيسبوك بتغذية أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة تدرس طبيعة التفاعل العاطفي للمستخدمين. فإذا أظهر المستخدم غضبًا أو فضولًا تجاه نوع معين من المحتوى، فإن المنصة تُكافئ هذا السلوك بمزيد من المنشورات المشابهة، مما يخلق حلقة إدمانية من المشاعر المتطرفة.
بهذا الشكل، لا تكتفي الخوارزميات بعرض المحتوى، بل تقوم فعليًا بتشكيل مزاج المستخدم اليومي، وتحديد أولويات تفكيره عبر التكرار المنهجي للمضامين التي تثير استجاباته العاطفية.
التحكم الناعم: التوجيه دون وعي
الخطير في الأمر أن المستخدم لا يشعر بهذا التوجيه. يظن أنه يختار بحرية، لكنه في الواقع يتحرك داخل حدود رقمية مرسومة سلفًا. كل ما يراه – من الأخبار وحتى الإعلانات – هو نتيجة لحسابات معقدة تهدف لزيادة الوقت الذي يقضيه على المنصة، وبالتالي أرباح الشركة.
تسمّى هذه الظاهرة التحكم الناعم (Soft Manipulation)، وهي أخطر من الرقابة المباشرة لأنها لا تفرض شيئًا بالقوة، بل بالإقناع التدريجي.
الأبعاد السياسية والاجتماعية
في الانتخابات الأمريكية 2016، تبيّن أن خوارزميات فيسبوك ساهمت في تضخيم الأخبار المزيفة التي استُخدمت لتشويه صورة مرشحين سياسيين. ومنذ ذلك الحين، ارتبط اسم المنصة بفكرة “تأثير فيسبوك” على الديمقراطية.
حتى في المجتمعات العربية، باتت المنصة ساحة لصراعات فكرية وطائفية تغذيها الخوارزميات التي تُضخّم المحتوى المتطرف لأنه ببساطة “يُثير التفاعل”.
هل يمكن إصلاح الخوارزميات؟
تحاول الشركة الأم Meta تحسين الشفافية عبر مبادرات مثل Facebook Oversight Board، لكنها ما زالت بعيدة عن تحقيق توازن حقيقي بين حرية التعبير والمسؤولية المعلوماتية. فكل تعديل في الخوارزمية له آثار جانبية هائلة على المجتمع.
الحل قد يكون في التعليم الرقمي الواعي، أي تدريب المستخدمين على التفكير النقدي تجاه ما يرونه على المنصات، بدل الاعتماد الكامل على الأنظمة الذكية لتحديد الحقيقة.
خاتمة: من يدير من؟
في النهاية، يطرح فيسبوك سؤالًا فلسفيًا عميقًا: هل نستخدم التكنولوجيا أم هي التي تستخدمنا؟ ما دامت الخوارزميات تعمل بمنطق “المحتوى الذي يثيرك أكثر هو الأهم”، فإننا سنظل ندور في دائرة لا نهائية من المثيرات والانقسامات، حيث تتحول الحقيقة إلى منتج رقمي آخر ضمن سوق التفاعل.